مقدمة

بعد أن انتهيتُ من كتابة هذه الأوراق، ألقيتُ برأسي بين راحتيَّ، ورحت أسأل نفسي: أكثر من سبع سنوات لا تشغلني إلا قضية واحدة، أصيغها طرفاً من الليل، وأبحث عن إجاباتها الليل كله! وها أنا قد انتهيت من حل رموزها، وعرفت الخيط الأبيض من الأسود فيها، ووقفت على الحق. لكن تُرى هل انتهت المعضلة التي طبعَت قسوتَها على قسمات حياتي وملامحها؟

الآن بدا لي أنها لم تنتهِ، بل بدأت! إن الذي انتهى هو المرحلة الصعبة، وها هي المرحلة الأصعب تبدأ!

إنني أحيا في مجتمع تسوده قِيمٌ وأفكارٌ ليس من بينها ما يصون حق التفكير وحريته!! وإن أباحه فهو يفترض النتائج مسبَّقاً، وما عليك إلا أن تدور لتصل في النهاية لتلك المسلَّمات!

رفعتُ رأسي أقلّب في صفحاتي، لتقفز إلى ذاكرتي قصة فنانٍ فقير قضى سنوات عمره في عمل تمثال. وبعد المجهود العظيم والتعب الشديد أتمَّ عمله واضطجع لينام. وفي منتصف الليل استيقظ فجأة على أثر إحساسه بصقيعٍ قارس باغتَ المدينة. وخوفاً على التمثال أخذ معطفه وما عنده من فراش ولفَّ بها التمثال. وبعد ذلك اضطجع بجواره ونام، ولكنها كانت النومة الأخيرة. وفي اليوم التالي اكتشف جيرانه أنه فارق الحياة، فناحوا عليه لما علموا أنه ضحّى بحياته لأجل فنّه!

وعدتُ أحدّث نفسي: إن الموت في سبيل الفن قد يكون جائزاً في أعراف الفنانين والذين يقدّرونه، بيد أن الموت في سبيل الحق لا ينكره إلا المبْطَلون!

لكن ما أن استقرّت عندي هذه الحقيقة حتى خطر لي هذا التساؤل: ولماذا الموت في سبيل الحق؟ وما الداعي إلى سيطرة هذا الشعور: أن ·الحياة في سبيل الحق، هي الأجدر لمن عرف الحق. إن المسلمين الذين يلّوحون بحدّ ·الردّة لكل من يساوره شك في معتقده، إنما تحركهم دوافع كثيرة، ليس من بينها على الإطلاق الخوف على الإسلام، لكنه الجهل والحقد والكراهية! إني أعرف مسلمين كثيرين ارتدّوا عن الإسلام فأصبحوا ملحدين، فما حرَّك إخوانهم المسلمون ساكناً!! لكني أعرف أضعافهم ·ارتدّوا ليكونوا مسيحيين، فقامت الدنيا ولم تقعد!! مع أن القرآن قد أخبر أن أسلافهم فرحوا لانتصار الروم على الفرس، لا لشيء إلا لأن الروم أهل كتاب، والفرس أهل إلحاد وزندقة!

إن حدّ الرِّدة هو القتل، وقد يكون عقاباً لمن دخل الإسلام من غير حظيرته، ثم ارتدَّ عنه. لكن الأمر يختلف، ليصبح حد الردّة أداةَ قهرٍ وإذلالٍ إذا مورس مع المسلمين أنفسهم متى ارتدوا عن الإسلام، لأنهم لم يختاروا الإسلام عند ولادتهم. وأعتقد أن هذا ما حدا بكاتبٍ مثل الدكتور محمد عمارة أن يؤكد أن الإسلام يضمن لأتباعه حق الارتداد عن دينهم! وذلك في كتابه ·الغزو الفكري وهمٌ أم حقيقة . فما دام بحث الشاك (والكلام للدكتور عمارة) قدر طاقته فلم يجد ضالته في الإسلام، فلا إكراه له على الإيمان به، فقاعدتا (لا إِكْرَاهَ فِي ا لدِّينِ) (البقرة 2: 256) (ولا يُكَلِّفُ ا للَّهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا) (البقرة 2: 286) ضمنت حق المسلم في الارتداد عن دينه. هذا فضلاً عن معاملته في الدنيا كمعاملة كاملي الإسلام. وأما حسابه الأخروي فموكول إلى الله. وإن كان بعض الفقهاء، انطلاقا من قاعدة ·لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها قال إنه عند الله من الناجين!

ومع ذلك فإنك لن تعدم من يصرخ في وجهك ضارباً بهذا عرض الحائط، غير معترفٍ إلا بالقتل لمن ارتد. فليكن إذاً.. فنحن لا نملك إلا صلاة من أجل أن يفتح الله قلبه وعقله للحق، الذي دّوَنْتُ حيثيات اقتناعي به في هذه الصفحات.. وها أنا أطلقها مشفوعة بصلاةٍ حارة حتى يصفح الله عمّا فيها من عيوب ويستر ما فيها من أخطاء، بحيث لا تكون عثرةً لأحد، ويجعل ما فيها من الحق سبب بركةٍ لكثيرين.