الفصل الثالث عشر
يختلف نكاح المتعة عن الزواج العادي، في أن من يتزوج زواج متعة لا يُقدم على حياة زوجية ولا دوام النسل، بل الغرض الوحيد من ورائه تحصيل رالمتعةذ في إطار رشرعيذ. أما العاقد فيكون في الغالب من بقي مدة طويلة خارج بلده لسبب من الأسباب، فيتزوج امرأة بشكل مؤقت. وتُحدد مدة الزواج في العقد الذي يُفسخ بترحال العاقد.
وتدلنا الأحاديث الواردة بشأن نكاح المتعة على أن محمداً أباحه لأصحابه لا سيما أثناء الغزوات. غير أننا نرى عمر بن الخطاب من أشد المعارضين للمتعة حيث قال: رإن رسول الله أذن لنا المتعة ثلاثاً ثم حرمها. والله! لا أعلم أحداً يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلها بعد أن حرمها. وفي رواية نقرأ أن محمداً حرمها. غير أنها موضع خلاف بين الفقهاء، إذ رُوي عن عمران قوله: "تمتعنا على عهد رسول الله فنزل القرآن. قال رجل برأيه ما شاء".
وبغض النظر عن الخلافات في تفاصيل "المتعة" عند المذاهب السنية بإمكاننا القول أنها تساوي الزنا، بينما جعلتها الشيعة صنفاً من أصناف الزواج الشرعي. ولكن هذا لا يعني أن لا يوجد في الفقه السني ما له طابع المتعة، وإن لم يسموها "متعة". فقد يحدث مثلاً أن يتفق الرجل مع المرأة بصورة إضافية إلى عقد النكاح، ويلزمان أنفسهما بالطلاق عند انتهاء المدة التي اتفقا عليها.
وبما أن المذاهب السنية أجمعت على نسخ المتعة وتحريمها بناء على أحاديث مروية عن محمد. نريد معالجة الموضوع في الفقه الشيعي. إن مشروعية نكاح المتعة في (رأي الشيعة) ثابتة في القرآن والسنة، وما رُوي عن أئمتهم المعصومين. أما دليلهم القرآني فهو: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأُحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جُناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليماً حكيماً. ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصَنات المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصَنات غير مسافحات ولا متخذاتِ أخدانٍ. فإذا أُحصنَّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، ذلك لمن خشي العنتَ منكم، وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم" (النساء، 4: 42 و52).
ورُوي عن أبي عبد الله (جعفر الصادق، الإمام السادس للشيعة الاثني عشرية) قوله عن نكاح المتعة: "أحلها الله في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي حلال إلى يوم القيامة". فقال أبو حنيفة ذات يوم: ريا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرمها عمر ونهى عنها؟ذ! فقال: "وإن كان فعل". قال: "إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئاً حرمه عمر". قال: فقال له: "فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله (ص)، فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله (ص)، وأن الباطل ما قال صاحبك". قال: فأقبل عبد الله بن عمير فقال: "يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن". قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءه وبنات عمه.
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: "سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة، فقال: أي المتعتين تسأل؟ قال: سألتك عن متعة الحج، فأنبئني عن متعة النساء أحَقٌّ هي؟ فقال: سبحان الله، أما قرأت كتاب الله عزّ وجلّ؟ "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" فقال أبو حنيفة: والله فكأنها آية لم أقرأها قطٌ.
وفي رواية مرفوعة من علي أن أبا حنيفة قال لأبي جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة، أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أنه تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك؟ فقال له أبو جعفر: ليس كل الصناعات يُرغب فيها وإن كانت حلالاً، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ، أتزعم أنه حلال؟ فقال: نعم. قال: فما يمنع أن تقعد نساؤك في الحوانيت نابّذات فيكتسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ. ثم قال له: يا أبا جعفر، إن الآية التي في "سأل سائل" تنطق بتحريم المتعة، والرواية عن النبي (ص) قد جاءت بنسخها. فقال له أبو جعفر: يا أبا حنيفة، إن سورة "سأل سائل" مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة ردية. فقال له أبو حنيفة: وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة، فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، قال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟ فقال أبو جعفر: لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ثم توفي عنها ما تقول فيها؟ قال. لا ترث منه، قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث، ثم افترقا.
وحجة المذاهب السنية في نسخ "المتعة" (بجانب الأحاديث التي تطرقنا إليها) الآية: رقد أفلح المؤمنون .. الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين" (المؤمنون 32: 5) غير أن الشيعة تزعم أن هذه الآية مكية ونزلت قبل إباحة المتعة. ويبدو أن التفسير الشيعي ينسجم مع الواقع التاريخي أكثر، لأن لنا شواهد عديدة في مجموعات الأحاديث (المعتبرة لدى السنة) لم يبح فيها محمد نكاح المتعة فقط، بل أمر به أصحابه. وفي رواية عن جابر بن عبد الله أن المتعة تكون للأبد. يخبرنا ما ورد في مسند أحمد بن حنبل: "أنزل الله من الرخصة بالتمتع، وسنّ رسول الله فيه". يتضح لنا من الأخبار أن أصحاب محمد عانوا صعوبة بالغة في فهم هذه الرخصة وتوفيقها مع مبادئ الأخلاق السائدة حينذاك، كما نعرف ذلك من قول عمر.
والظاهر في الروايات الشيعية أن ليس هناك تحديد عددي لمن يريد "متعة النساء". رعن أبي عبد الله قال: ذكر له المتعة أهي من الأربع؟ فقال: تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات". وأما تعليل نكاح المتعة عند الشيعة فمن الغرابة بمكان. إذ يقولون إنه أُبيح للرجل لكي يحافظ على عفافه إن كان أعزب: "عن الفتح بن يزيد قال: سألت أبا الحسن عن المتعة فقال: هي حلال مباح مطلق لمن يغنيه الله بالتزويج (أما) من لم يغنه (الله) بالتزويج فليستعفف بالمتعة، فإن استغنى عنها بالتزويج فهي مباح له إذا غاب عنها". والإشارة هنا بالاستعفاف إلى الآية 6 في سورة النساء، غير أنها لا تتصل بموضوع المتعة كما تعترف به أشهر وأقدم التفاسير الشيعية. ومن الغريب أيضاً أن نقرأ بأنه لا يجوز متعة كل النساء، إذ هناك شروط وأوصاف للمرأة يجب توفرها. فالشرط الأول أن تكون المرأة مؤمنة وعفيفة رعن أبي جعفر أنه سُئل عن المتعة فقال: إن المتعة اليوم ليس كما كانت قبل اليوم إنهن يومئذ يؤمنَّ واليوم لا يؤمنَّ فاسئلوهن. عن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله عنها - يعني المتعة - فقال لي: حلال، فلا تتزوج إلا عفيفة، إن الله عز وجل يقول: "والذين لفروجهم حافظون" (المؤمنون 32: 5). فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك. ومن أراد أن يتزوج امرأة زواج المتعة ولا يعرف أهي عفيفة أم لا، فعليه "أن يتعرض لها، فإن أجابته إلى الفجور فليست عفيفة". وعن محمد بن أبي الفضيل قال: سألت أبا الحسن عن المرأة الحسناء الفاجرة، هل يجوز للرجل أن يتمتع منها يوماً أو أكثر؟ فقال: "إذا كانت مشهورة بالزنا فلا يتمتع منها ولا ينكحها".
وأما شروط المتعة فهي اثنان. أجل مسمى وأجر مسمى. عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه (ص)، لا وارثة ولا موروثة، كذا وكذا يوماً. وإن شئت كذا وكذا سنة، بكذا وكذا درهماً. وتسمّي من الأجر ما تراضيتما عليه، قليلاً كان أم كثيراً. فإذا قالت: نعم فقد رضيت، فهي إمرأتك وأنت أولى الناس بها. قلت: فإني أستحي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضر عليك. قلت: وكيف؟ قال: إنك إن لم تشترط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدة، وكانت وارثة ولم تقدر على أن تطلقها إلا طلاق السنة.
يقول الفقهاء بعدم جواز "التمتع" من النصرانية واليهودية، عن الحسن التفليس قال: "سألت الرضا، أيتمتع من اليهودية والنصرانية؟ فقال: التمتع من الحرة المؤمنة أحب إليَّ، وهي أعظم حرمة منهما".
الفصل الرابع عشر
الطلاق في اصطلاح الفقهاء "رفع قيد النكاح". والرجل وحده هو المؤهَّل لتنفيذه. كان الطلاق معروفاً في شبه الجزيرة العربية قبل محمد، ويفيد فسخ عقد النكاح فوراً ونهائياً. وقد أتى القرآن بقواعد جديدة لم تكن معروفة لدى معاصريه.
يمكن أن نلخص الأحكام الواردة في المصادر الفقهية بشأن الطلاق كما يلي: الرجل يملك وحده حق التطليق، ولا يجب عليه أن يذكر سبباً. غير أنه يُعتبر مكروهاً، وعند الأحناف حراماً. أما القاعدة القرآنية للطلاق فهي الآيتان: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة 2: 922) و"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق 56: 1). وأما دليل جوازه في السُنة فما روي عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله. فقال رسول الله: مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض. ثم تطهر. ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
يقول الفقهاء من المذهب الحنفي إن الطلاق يكون أحد الثلاث: الأفضل والحسن والمكروه (النافذ). الطلاق الأفضل أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لَمْ يجامعها فيه، وكذا لم يجامعها في حالة الحيض الذي قبله. والطلاق الحسن أن يطلقها ثلاث تطليقات في كل من الحيضة الأولى والثانية والثالثة أثناء طهرها دون أن يجامعها. وأما الطلاق المكروه أو البدعي فهو طلاقها طلقتين أو ثلاث طلقات في حيضتها بلفظ واحد. طلاق الحرة ثلاثاً، وطلاق الأمة طلقتان، ويجوز طلاق المكرهة أيضاً.
لا يستلزم الطلاق لجوازه وجود النية المطلوبة مثلاً لصحة الصلاة المفروضة، ويتم بأن يقول الرجل لزوجته: "أنت طالقة" أو "طلقتك". فإذا قال الرجل لزوجته: أنت مطلقة من هنا إلى الشام فهذا طلاق واحد له الرجعة. فإن قال: أنت مطلقة في مكة أو بمكة فينفذ طلاقها في سائر البلدان. وإن قال: أنت مطلقة غداً فيتم طلاقها بالسَّحر. وإن قال: أنت مطلقة قبل زواجي منك فهذا ليس بطلاق. ولكن إن قال: أنت مطلقة ما لم أطلقك أو إلى أن طلقتك أو حين لم أطلقك، وهي سكتت، فالطلاق نافذ .. ولكن إن قال لها: أنت مطلقة إن لم أطلقك أو إن لم أكن طلقتك، فلا تكون مطلقة إلى أن تُتوفى.
لقد أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يتم بصريح القول فحسب، بل يكون عن طريق الإشارة والكتابة أيضاً. من هذا القبيل قوله لها: "اعتدّي" أو "استبرئي رحمك!" أو "أنت واحدة"!". وفي هذا الموضوع تفصيل أفرط فيه الفقهاء. إذا طلق الرجل امرأته تطليقة واحدة فله أن يرجع إليها أثناء عدتها، ولا يلزمه إذنها، بل يكفي أن يقول لها: "قد رجعت إليك" أو "مسكتك أو أمسكتك". يبدو أن حق الرجل في "الرجعة" استغل به في عهد محمد، حيث كان الرجل يطلق امرأته ثم "يرجع" إليها قبل عدتها لكي يطلقها من جديد، ليجبرها على دفع المهر إياه، أو عتقها من الرجل، مما أدى بمحمد إلى إصلاح هذا الوضع فجاء في القرآن: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا. من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزواً .. واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم" (البقرة 2: 132-232). و"فإن طلقها (أي ثلاثاً) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره" (البقرة 2: 03) وورد في السنة تأكيداً لهذا الحكم: "أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".
حدثني محمد بن بشار: حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت فطلق، فسُئل النبي (ص): أتحل للأول؟ قال: "لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول".
يزعم المستشرق الهولندي Juynboll أن قول القرآن: "حتى تنكح زوجاً غيره" (2: 230) قصد محمد من ورائه منح النساء حلاً وسطاً.
لقد ذهب الفقهاء من مختلف المذاهب إلى أن الرجل لا يلزمه ذكر سبب إذا طلق زوجته. بيد أن بعض الكتاب والعلماء المعاصرين يدعون عكس ذلك، فيقول الصابوني: فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين، كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه. ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف (فاحشة الزنى) فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدر عليه حياته أم يطلقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة. وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألا يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات".
وكثيراً ما يتحدث الكتاب المسلمون عن إباحة الطلاق في الإسلام وأحكامه كمفخرة من مفاخر الإسلام تجاه المسيحية والقوانين الوضعية والتي حرمت النكاح إلا في حالة الزنى (كما هو الحال في المسيحية) أو قيدته بشروط تجعله شبه المستحيل، الأمر الذي يتناقض والفطرة.
ونختم هذا الفصل بقول العقاد: "شريعة القرآن الكريم في مسألة الطلاق شريعة دين ودنيا، وكل ما اشتملت عليه من حرمة الدين تابع لما شرع له الزواج أن يتجرد الزواج من مصلحته النوعية الاجتماعية، تغليباً للصبغة العبادية على مشيئة الأزواج".
الفصل الخامس عشر
لعلم الفرائض صلة وثيقة بالحقوق العائلية من حيث انتقال "تركة" الشخص المتوفى إلى أقربائه "العليا". ويتوقف على النظام العائلي تحديد من هو المؤهَّل للميراث، أو بعبارة أخرى من هم الوارثون. فالرجال عند العرب الجاهليين كانوا وحدهم يملكون حق الإرث، وذلك بناء على النظام الأبوي (patriarchal) وهذا بقي أيضاً طابع الشريعة الإسلامية والمبدأ الأساسي في علم الفرائض.
وتُبنى القاعدة القرآنية في تنظيم أحكام الشريعة بشأن الميراث على الآية: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً، فريضةً من الله، إن الله كان عليماً حكيماً" (النساء 4: 11).
وعن الأرامل: "ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد، فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد. فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" (النساء 4: 21).
كما هو الحال في الشهادة فالمرأة تظهر في "علم الفرائض" أيضاً "كنصف إنسان" لها نصف ما للرجل، بيد أن المفسرين القدماء - مثلهم مثل الكتاب المسلمين المعاصرين - يزعمون أن هذا الوضع رفعٌ لمكانة المرأة وتكريم لها، لأنها لم تكن تملك شيئاً من الميراث في المجتمع الجاهلي إلى أن نزلت هذه الآيات: "عن السدي (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من أولاده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها أم كُحة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (ص)، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف) ثم قال في أم كحة (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد. فإن كان لكم ولد فلهن الثمن).
ورُوي عن ابن عباس: "كان المال وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين".
ويبدو أن القرآن حاول إصلاح وضع المرأة في الميراث، ولكنه لم يوفَّق - ولا نقدر أن نتوقع ذلك منه - في مساواة كاملة بينها وبين الرجل. وابن جرير الطبري (الذي يجب أن نعتبر تفسيره أقدم ما وصل إلينا بعيداً عن يد التحريف) يكتفي بسرد الروايات عن سبب نزول الآية دون أن يعلق عليها. ولكن نجد في نفس العصر الذي عاش فيه الطبري من اكتشف في طيات هذه الآية مزايا الرجل وما تفوَّق به على الأنثى، نعني المفسر والفيلسوف فخر الدين الرازي: "لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه: أما أولاً فلعجزها عن الخروج والبروز، فإن زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك. وأما ثانياً: فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها. وأما ثالثاً: فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟.
يجيب الرازي عن السؤال الذي طرحه بنفسه، فيقول: "والجواب عنه من وجوه: الأول: إن خروج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها، وخروج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته، ومن كان خروجه أكثر فهو إلى المال أحوج. الثاني: أن الرجل أكمل حالاً من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية، مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضاً شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الإنعام عليه أزيد. الثالث: إن المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر:
إن الفراغ والشباب والجِده مفسدةٌ للمرء أي مفسده
وقال تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" وحال الرجل بخلاف ذلك. والرابع: أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، نحو بناء الرباطات، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيراً، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك.
وأخيراً يأتي الرازي المعروف بأسلوبه العقلاني في تفسير القرآن برواية أنّ جعفر الصادق (الإمام السادس للشيعة الإثني العشرية) كدليل على أن القاعدة القرآنية لميراث الأنثى قاعدة شبه أزلية: "رُوي أنّ جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال: إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم. فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل". يقول النسفي: "المراد (أي بالآية: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) حال الاجتماع، أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله والبنتان تأخذان الثلثين".
قد يجوز التسليم بأن القرآن - كما قلنا آنفاً، وكما قال المفسرون جاء بما يمكن اعتباره إصلاحاً لوضع المرأة في المجتمع الجاهلي، وإن لم يكن هذا من قبيل التسوية بين المرأة والرجل قياساً على المفهوم السائد في عصرنا. غير أن القرآن نفسه بأمسّ حاجة إلى الإصلاح من هذه الناحية، نظراً لما انجزت البشرية من تقدم في مساواة الجنسين. فهذه مشكلة المفكر أو الفقيه المسلم اليوم. فهو كمسلمٍ يؤمن أن كتابه الكريم أُنزل من السماء وليس من كلام البشر، فلا يسعه الاعتراف بوجود عيب أو نقص فيه، بل هو مضطر إلى الدفاع حتى عما يسميه الناس "إهانة للمرأة" فيزعم أن ما يسميه الناس إهانة للمرأة هي في الحقيقة تكريم لها: "ولا يزال في الناس إلى يومنا هذا من يرى أن إنسانية المرأة أقل من إنسانية الرجل. وأنها لذلك كانت في الميراث على النصف من ميراث الرجل، وكانت كذلك في الشهادة، ويقولون: إن ذلك هو حكم الإسلام وقد قرره القرآن "للذكر مثل حظ الأنثيين" (النساء 4: 11)، "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان" (البقرة 2: 282). والحق أن حكم المرأة في الميراث، ليس مبنياً على أن إنسانيتها أقل من إنسانية الرجل، وإنما هو مبني على أساس آخر قضت به طبيعة المرأة والحياة العاملة".
إن نقطة الضعف عند شلتوت وأمثاله من العلماء والفقهاء المعاصرين ممن عنوا بتبرير ما لا يمكن توفيقه مع العصر الحديث من القرآن، هي أن يفترضوا ظروفاً لا يمكن تصور وجودها إلا في ظل الشريعة الإسلامية. فعندما يتحدث شلتوت عن دور المرأة في الحياة العاملة أي كربة البيت وكمن تعيش من إنفاق زوجها، وتحملها أعباء جسيمة!! في سياق دفاعه عن "وللذكر مثل حظ الأنثيين"، ينطلق من مبدأ شبه بدائي للمجتمعات المتقدمة، أي ليس بوسع المرأة أن تشتغل خارج بيتها فتشارك مع زوجها في تدبير المعاش! وأخيراً يرى شلتوت رفي ظل هذا الأساس أن المرأة أسعد حظاً من الرجل في نظر الإسلام".