الفصل الرابع

الزواج

 

يستعمل القرآن لعقد الزواج لفظين هما: الزواج والنكاح. والنكاح هو المشهور في الشريعة ويفيد أربعة معانٍ عند الفقهاء كما وردت في القرآن: التزويج والجماع والهبة والحلم. وأما النكاح بمعنى التزويج فقوله: رلا تَنكحوا المشركات حتى يؤمِنّذ (البقرة 2: 122) يعني لا تتزوجوهن وكقوله: "فانكحوهن بإذن أهلهن" (النساء 4: 52) وقوله: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" (النساء 4: 3) يعني تزوجوا. وقوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" (النور 42: 3) يعني لا يتزوج.

والوجه الثاني أي الجماع في قوله: "حتى تنكح زوجاً غيره" (البقرة 2: 032) يعني حتى يجامعها زوج غيره وتجامع زوجاً غيره.

الثالث: النكاح الهبة، قوله: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين" (الأحزاب 33: 05). وهذه الواهبة لا تحل لأحد غير النبي.

والرابع: النكاح الحلم في قوله: "ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح" (أي الحُلم) (النساء 4: 6).

وقد أجمع الفقهاء على أن "النكاح" يعني الجماع أصلاً، ويستعمل بمعنى عقد الزواج مجازاً لأنه الوسيلة المشروعة لذلك ويحلله. ولا يجوز "النكاح" إلا بعد عقد الزواج الذي يتم بين الرجل والمرأة أي "العاقدين" وولي المرأة في حضور شاهدين. وللنكاح ركنان وهما جزآه اللذان لا يتم بدونهما: أحدهما الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه، وثانيهما القبول، وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه، فعلى الزوج دفع ما يُسمى مهراً وصداقاً. إن قبول ولي المرأة هو الشرط الأساسي لشرعية عقد الزواج. لأنه "لا نكاح إلا بوليّ". وسنعالج موضوع عقد النكاح بالتفصيل فيما بعد. وليس للزواج كيان قدسي في الإسلام كما هو الحال في الكنيسة الكاثوليكية، غير أنه ميثاق غليظ لا يجوز العبث به إذ يقول القرآن: رقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاًذ (النساء 4: 12). يُبنى النكاح في الإسلام على عقد مدني، وهذا العقد لم يكن من الضروري تسجيله كتابة.

 

الفصل الخامس

حقوق الزوج على الزوجة

 

اهتم الفقهاء في باب النكاح بحقوق الزوجين بعضهما على بعض، ووضعوا نصب أعينهم حقوق المرأة على زوجها. وأدل خبر على صحة هذا الوضع قول الشافعي: "النكاح نوع رق، فهي رقيقة له. فعليها طاعة زوجها مطلقاً في كل مطلب منها في نفسها، مما لا معصية فيه". وهناك أحاديث تؤيد هذا الموقف: "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" و"لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح البشر أن يسجد لبشر لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها". وعن عائشة: "سألت النبي أي الناس أعظم حقاً على المرأة: قال: زوجها. قلت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه". وفي إحياء علوم الدين: "وكان رجل قد خرج إلى سفر وعهد إلى امرأته ألا تنزل من العلو إلى أسفل. وكان أبوها في الأسفل فمرض. فأرسلت المرأة إلى رسول الله تستأذن في النزول إلى أبيها. فقال رسول الله (ص) "أطيعي زوجك". فمات. فاستأمرته فقال: أطيعي زوجك. فدُفن أبوها. فأرسل رسول الله يخبرها أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها". إن طاعة المرأة زوجها من دعائم الإيمان عند الغزالي: "إذا حصلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها" وينسب الغزالي هذه الرواية إلى محمد. قالت عائشة وهي تروي عن محمد: ""سألت فتاةٌ رسولَ الله: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ قال: لو كان من فرقه إلى قدمه صديد فلحسته ما أدت شكره". روى ابن عباس: "أتت امرأة من خثعم إلى النبي فقالت: إني امرأة أيم وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: إن من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها فراودها على نفسها وهي على ظهر بعير لا تمنعه. ومن حقه ألا تعطي شيئاً من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان الوزر عليها والأجر له. ومن حقه ألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت فلم تقبل منها. وإن خرجت من بيته بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو تتوب". وفي رواية ضعيفة: "أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها إذا كانت في قعر بيتها، وإن صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".

ربما يرجع سبب هذا الحرص على بقاء المرأة في مخدعها إلى ما يُروى عن رسول الإسلام: "للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات".

ويسرد الغزالي حقوق الزوج على زوجته كما يلي:

"حقوق الزوج على الزوجة كثيرة، وأهمها أمران، أحدهما الصيانة والستر. والآخر ترك المطالبة مما وراء الحاجة، والتعفف عن كسبه إذا كان حراماً. وهكذا كانت عادة النساء في السلف. كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضر ولا نصبر على النار. وهمَّ رجل مِن السَّلف بالسفر، فكره جيرانه سفره، فقالوا لزوجته لِمَ ترضين بسفره ولم يدع لك نفقة؟ فقالت: زوجي منذ عرفته عرفته أَكالاً وما عرفته رزاقاً، ولي رب رزاق. يذهب الأكال ويبقى الرزاق".

"ومن الواجبات عليها أن لا تفرط في ماله، بل تحفظه عليه. قال رسول الله (ص) "لا يحل لها أن تُطعِم من بيته إلا بإذنه، إلا الرطب من الطعام الذي يُخاف فساده، فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره. وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر". ومن حقها على الوالدين تعليمها حسن المعاشرات وآداب العشرة مع الزوج".

ومن حقوقه عليها أن:

"تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه. همُّها صلاح شأنها وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها. وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضراً لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها، وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج. وقد قال (ص) "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين في الجنة، امرأة آمت (كرهت) من زوجها وحبست نفسها على بناتها حتى ثبنَ أو مُتْنَ" وقال صلى الله عليه وسلم "حرم الله على كل آدمي الجنة يدخلها قبلي. غير أني أنظر عن يميني فإذا امرأة تبادرني إلى باب الجنة فأقول: ما لهذه تبادرني؟ فيُقال يا محمد، هذه امرأة حسناء جميلة، وكان عندها يتامى لها فصبرت عليهن حتى بلغ أمرهن الذي بلغ، فشكر الله لها ذلك".

"ومن آدابها أن لا تتفاخر على الزوج بجمالها، ولا تزدري زوجها لقبحه. فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له".

ومن آداب المرأة ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها، والرجوع إلى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها، ولا ينبغي أن تؤذي زوجها بحال. رُوي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (ص) "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله! فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا".

يلخص الفقيه الحنفي الكاساني حقوق الرجل تجاه زوجته بقوله: "منها حل النظر واللمس من رأسها إلى قدمها في حالة الحياة، لأن الوطء فوق النظر واللمس فكان إحلاله إحلالاً للمس والنظر من طريق الأولى. وهل الاستمتاع بها بما دون الفرج في حالة الحيض والنفاس فيه خلاف. ومنها ملك المتعة وهو اختصاص الزوج بمنافع بعضها وسائر أعضائها استمتاعاً أو ملك الذات والنفس في حق التمتع على اختلاف مشايخنا في ذلك، لأن مقاصد النكاح لا تحصل بدونه. ومنها ملك الحبس والقيد، وهو صيرورتها ممنوعة عن الخروج والبروز لقوله تعالى "أسكِنوهن" (الطلاق 56: 6). والأمر بالإسكان نهيٌ عن الخروج والبروز والإخراج، إذ الأمر بالفعل نهيٌ عن ضده. لأنها إن لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نهي النسب وللرجل أن يمنع زوجته وبناته عن الخروج لكي لا تكون فتنة علاوة على خطر "اختلال النسب".

وفي نهاية هذا الفصل أريد أن أنقل ما جاء في كتاب صدر حديثاً عن واجبات المرأة تجاه زوجها:

  1. عليها أن تتجنب الوقوف في الشرفات
  2. عليها أن تحتجب من استقبال الرجال على الأبواب
  3. عليها أن لا تخرج وهي متعطرة
  4. عليها أن تطيل ثيابها ولا تقلد الكافرات
  5. عليها أن لا تحدّث بصوت عال
  6. عليها أن لا تسير في وسط الطريق
  7. عليها أن لا تختلط بالرجال ولا أن تصافحهن.

وأما ما يجب عليها فيذكر المؤلف بإيجاز

  1. كوني غضيضة الصوت، شريفة القول في أثناء سيرك.
  2. سيري في جانب الطريق، واحذري وسط الطريق.
  3. احذري الوقوف عند الباب مستشرفة لدخول الضيف.
  4. لا تكثري من الخروج من بيتك لغير ضرورة.
  5. لا تتركي حجابك لأي ظرف من الظروف خارج البيت.
  6. تنبَّهي عند وقوفك في الشرفات ماذا تلبسين.
  7. أحذري مصافحة الرجال الأجانب، والسفر بغير محرم فكلاهما من المعاصي، وبدع نساء زماننا.
  8. أحذري أن تضيعي وقتك سدىً وعبثاً، فأكثري من التسبيح، والاستغفار أثناء سيرك بصوت لا يسمعه غيرك.
  9. أقلي من التلفُّت، وكوني غضيضة الطرف.
  10. أنت ضعيفة، وفي حاجة إلى رحمة ربك، فارفعي إليه كفيك دائماً طالبة العفو بعد الذنب، والعافية بعد الحسنة.

 

الفصل السادس

حقوق الزوجة على الزوج

 

قال محمد في "خطبة الوداع": "أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله".

رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال لي رسول الله: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وافطر، وقم ونم، فإن لجسدك حقاً عليك، وإن لزوجك عليك حقاً، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها وتكسوها إذا طعمت أو اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت".

ومن حقوق المرأة على زوجها أن يحميها. قال محمد: "إني أحرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة" ومن حقوقها عليه ممارسة الجماع إذ "الوطء واجب على الرجل إذا لم يكن له عذر، وبه قال مالك. وإن سافر عن امرأته لعذر وحاجة سقط حقها على القسم والوطء وإن طال سفره، ولكن إن يكن له عذر أو إن اعتذر عن إبائه الجماع غير مرة، فرق بينه وبينها. وإذا كانت له امرأة حرة لزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال، وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع ليال. ومن حقوقها عليه أن يعامل أزواجه بعدل. وجاء في الحديث: "من كانت له امرأتان يميل مع إحداها على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط".

 

الفصل السابع

أهمية النكاح (الزواج) في الإسلام

 

الزواج حسب القرآن أمر مرغوب فيه: "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم" (النور 42: 23). وهو سُنّة النبي محمد: "النكاح من سنّتي. فمن لم يعمل بسُنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء" وهو نصف الإيمان: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي" . وأما عند الفقهاء فهو فرض في حالة التوقان، أي فمن وجد في نفسه شوقاً إلى النكاح ولم يتزوج وهو قادر على ذلك من الناحية المادية فهو مذنب، مثله مثل مرتكب الكبيرة .

لقد حرم محمد العزوبة وورد في الحديث: رما في الجنة أحد إلا له زوجتان، وإنه ليرى ساقهما من وراء سبعين حلة، ما منها من عزب" وفي مسند أحمد بن حنبل: "إن سنتنا النكاح. شراركم عزّابكم، وأراذل موتاكم عُّزابكم" . سأل محمد رجلاً يدعى عكاف إذا كان متزوجاً فرد: "اللهم، لا!" قال: رهل لك جارية؟ذ قال: "لا" قال: "وأنت موسر؟ذ قال: "نعم". قال: "أنت إذاً من إخوان الشياطين. إن كنت من إخوان النصارى فأنت منهم ، وإن كنت منا فشأننا التزويج" . يرغّب محمد الرجال في الزواج لأن النساء يأتين بالبركة والغنى: "تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال" ورركعتان من المتزوج (وفي رواية: المتأهل) أفضل من سبعين ركعة من العزب" .

ونتعلم من الآثار المروية أن الزواج ليس سنة محمد فحسب، بل هو سنة الأنبياء أيضاً: "من كان على ديني ودين داود وسليمان وإبراهيم فليتزوج إن وجد إلى النكاح سبيلاً، وإلا فليجاهد في سبيل الله. إن استشهد يزوجه الله من الحور العين، إلا أن يكون يسعى على والديه أو في أمانة للناس عليه" . إذاً فمن لم يتزوج، يعرّض نفسه للعنة الله وملائكته: "لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على رجل تحصر، ولا حصور بعد يحيى بن زكريا" .

ولكن يبقى الإنجاب السبب الأهم: عن جابر قال: ركنت مع رسول الله في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي فالتفتُّ فإذا أنا برسول الله. قال: ما يعجلك؟ قلت: إني حديث عهد بعرس. قال: فبكراً تزوجت أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً. قال: فعليك بالكيس الكيس" (أي الولد) .

ويبدو أن لاحتقار العُزاب وكونهم ممن يُشتبَه بهم في المجتمعات الشرقية تاريخاً وتقليداً! فمن لم يتزوج يجعل نفسه عُرضة لمختلف التهم: "عن ابراهيم بن مسرة. قال، قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" .

الفصل الثامن

أهمية النكاح عند الفقهاء

 

يقول الفقهاء: "ليس للمسلمين عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر في الجنة إلا النكاح والإيمان" . وأما علاقة النكاح بالعبادة فيقول ابن همام: "هو أقرب إلى العبادات، حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي عنه لمحض العبادة" . إن أهمية النكاح ومكانته العليا هذه عند الفقهاء تكمن في كونه "سبباً لوجود الإسلام والمسلم" فلذا أولاه العبادات والجهاد، وإن كان عبادة لأن النكاح سبب لما هو المقصود منه وزيادة. فإنه سبب لوجود المسلم والإسلام والجهاد سبب لوجود الإسلام فقط وفي رد المحتار: "قدمه على الجهاد، وإن اشتركا في أن كلاً منهما سبب لوجود المسلم والإسلام، لأن ما يحصل بأنكحة أفراد المسلمين أضعاف ما يحصل بالقتال، فإن الغالب في الجهاد حصول القتل والذمة" .

علاوة على ذلك فإن هناك "مصالح أخرى" تتعلق بالنكاح، فمنها حفظ النساء والنفس من الزنا، فالنكاح هو الوسيلة الوحيدة لملك المتعة . وهناك من يدعي أن النكاح فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الإيمان، حتى أن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم. أما الشافعي فقد ذهب إلى أنه مباح كالبيوع. واستدلوا على أنه فرض أو واجب بوجوب الامتناع عن الزنا، فقالوا: "إذا كان الامتناع عن الزنا واجباً، ولا يتوّصل إليه إلا بالنكاح، فما لا يُتّوَصل إلى الواجب إلا به يكون واجباً" . إلا أن الفقهاء يستبعدون الشهوة أن تكون بمعنى النكاح، إذ لو كان الأمر هكذا لاكتفى النبي، الذي تزوج من غير زوج، بزوجة واحدة لا يوجد على ما يبدو اتفاق عند الفقهاء على أن النكاح (الزواج) واجب. ودليل المخالفين لوجوب الزواج قول القرآن: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران 3: 93). "وهذا خرج بمخرج المدح ليحيى بكونه حصوراً، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة. ولو كان واجباً لما استحق المدح بتركه، لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح . يرفض السرخسي هذه النظرة فيقول: "إن النكاح سنة محمد بينما التبتل كان من شريعة يحيى، فينبغي للمسلم اتباع سنة محمد . إن ازدياد الأمة يبقى المصلحة العليا بإجماع الفقهاء، إذ سيباهي محمد سائر الأمم يوم القيامة بكثرة أمته" .