الفصل التاسع

الزواج عند الصوفيين

 

لا يوجد ما يمكن "تسميته" موقفاً صوفياً عن الزواج، بل نرى أمامنا مواقف متضاربة تمنعنا عن استنتاجات عامة، ولكن بما أن الإسلام الصوفي - على العكس من الإسلام الأصولي الجامد في محتواه النظري - استطاع أن يصبغ شرائح واسعة ومختلفة في المجتمعات الإسلامية بصبغته الخاصة، وذلك بفضل كيانه المتنوع والمندمج بالخلفية الثقافية للبلد. ويجدر بنا أن ننقل فيما يلي آراء الصوفيين الإيجابية والسلبية حول الزواج.

الذين يرفعون قدر الزواج إلى واجب مطلق يسندون موقفهم هذا إلى أحاديث وإلى الأمر الواضح في القرآن حيث لم يذكر الله في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. قالوا: "إن يحيى قد تزوج ولم يجامع، وفعل ذلك لينال الفضل وإقامة السنة، وقيل لغض البصر. وأما عيسى فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له" . وفي حديث يورده الغزالي قال محمد: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وفي حديث ضعيف: رمن نكح لله وأنكح لله استحق لولاية الله" . وفي رواية عن ابن عباس قال: "لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج" يعلق الغزالي عليه: "يحتمل أنه جعله من النسك، ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب" . وينسب إلى ابن مسعود قوله: "لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً". وعن معاذ بن جبل، ماتت امرأتان له في الطاعون، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: "زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً" .

وحُكي أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة، فذكر لنبي زمانه حُسن عبادته، فقال: "نِعم الرجل هو، لولا أنه تاركٌ لشيءٍ من السُنة". فاغتم العابد لما سمع ذلك، فسأل النبي عن ذلك، فقال: "أنت تارك للتزويج" فاغتم العابد لما سمع ذلك، فقال: لست أحرمه ولكني فقير، وأنا عيال على الناس. فقال: "أنا أزوجك ابنتي". فزوَّجه النبي ابنته . وقال بشر بن الحرث: فضل عليَّ أحمد بن حنبل بثلاث: يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلبه لنفسي فقط. باتساعه في النكاح وضيقي منه، ولأنه نصب إماماً للعامة. ويقال إن أحمد تزوج في اليوم الثاني من وفاة أم ولده عبد الله وقال: أكره أن أبيت عزباً. وقال بشر بن يمينية: كثرة الناس ليست من الدنيا، لأن علياً كان أزهد أصحاب رسول الله وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية. فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء. وقالوا: "فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد" .

ولكن إن كان الانقطاع عن الدنيا والزهد في لذاتها من أهم دعائم السلوك الصوفي، فليس من الغرابة أن نجد في الأدب الصوفي آراء معادية للزواج. قد رأينا في الباب السالف كيف برهن بعض الفقهاء على أن النكاح ليس واجباً بواسطة الآية القرآنية حيث يذكر يحيى "حصوراً" و"من الصالحين" (آل عمران 3: 93) غير أن القائلين بوجوب النكاح احتجوا بأنه تزوج ولكن لم يجامع. وفيما يتعلق بالمسيح فتُذكر أحاديث عديدة عن زواجه بعد مجيئه ثانيةً - إن تأويلات وحكايات من هذا القبيل هي محاولة تأكيد الزواج كمؤسسة في الإسلام من جهة، وتبرير "التعددية" في بيت محمد من جهة أخرى. وحيث لا يكفي القرآن في الدلالة على كراهية الزواج، وليس من حديث صحيح يوحي بهذه الكراهية، فإن الزاهد يستشهد أولاً بالحديث الضعيف: "وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح فقد قال (ص) "خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد". وقال (ص) "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه، فيهلك" .

وفي الخبر "قلة العيال أحد اليسارين، وكثرتهم أحد الفقرين". وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال: "الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار". وقال أيضاً: "الوحيد يجد من حلاوة العمل، وفراغ القلب، ما لا يجد المتأهل". وقال مرة: رما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى". وقال أيضا: "ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا: من طلب معاشاً أو تزوج امرأة، أو كتب الحديث" . وقال الحسن: "إذا أراد الله بعبد خيراً، لم يشغله بأهل ولا مال". وقال ابن أبي الحواري: "تناظر جماعة في هذا الحديث، فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكونا له، بل أن يكونان له ولا يشغلانه. وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني: رما شغلك عن الله من أهل ومال وولد، فهو عليك مشئوم. وبالجملة لم يُنقل عن أحد الترهيب عن النكاح مطلقاً، إلا مقروناً بشرط. وأما الترغيب في النكاح، فقد ورد مطلقاً بغير شرط. فلنكشف الغطاء عنه، بحصر آفات النكاح وفوائده .

الفصل العاشر

صفات الزوجة المثلى

 

إذا كان الزواج في هذ المقام من الأهمية فكان من الطبيعي أن يهتم الفقهاء بصفات الزوجة المفضلة لكي تحقق أهداف الزواج المثلى في تصورهم. وبإمكاننا أن نلخص تلك الصفات التي يلزم وجودها أو المرغوب فيها كما يلي:

1- تكون المرأة أقل من الرجل سناً لئلا تكبر بسرعة فلا تلد، والغرض الصحيح من الزواج إنما هو التناسل الذي به تكثر الأمة ويعز جانبها. وتكون أقل منه في الجاه والعز والرفعة والمال، لأن الرجال قوامون على النساء (آل عمران 3: 34) حافظون لهن. ونقرأ الحديث المروي عن محمد: "تُنكح النساء لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدين ترِبت يداك و"لا تزوجوا النساء لحُسنهن. فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن. ولكن تزوجوهن على الدين. ولأَمةً خرساء سوداء، ذات دين أفضل" . ومن آداب الزواج أن لا تكون المرأة طويلة مهزولة ولا قصيرة دميمة ولا سيئة الخلق، وأن لا تكون مسنة أو لها ولد من غيره، أو أمة مع قدرته على زواج الحرة . ويسكت الجزيري عما يجب على الرجل أن يتحلى به من صفات حتى يكون زوجاً مثالياً لامرأته!!!

فالمرأة الأقل سناً من الرجل هي سنة محمد، وتقول عائشة: "تزوَّجني رسول الله وأنا بنت سبع سنين. قال سليمان: أو ستّ ودخل بي وأنا بنت تسع" وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة . وقد صار زواج محمد بعائشة للفقهاء مشكلة عويصة، فهم لم يتفقوا على السن الذي يؤهل البنت للزواج:

"في وقت الدخول بالصغيرة، فقيل لا يدخل بها ما لم تبلغ، وقيل يدخل بها إذا بلغت تسع سنين كذا في البحر الرائق. وأكثر المشايخ على أنه لا عبرة للسن في هذا الباب، وإنما العبرة للطاقة إن كانت ضخمة تطيق الرجال ولا يُخاف عليها المرض من ذلك كان للزوج أن يدخل بها، وإن لم تبلغ تسع سنين. وإن كانت نحيفة مهزولة لا تطيق الجماع ويُخاف عليها المرض لا يحل للزوج أن يدخل بها وإن كبر سنها وهو الصحيح" وفي كتاب الفروع: "وأحسن ما تكون المرأة بنت أربع عشرة سنة إلى العشرين، ويتم نُسُو (نمو) المرأة إلى الثلاثين ثم تقف إلى الأربعين، ثم تنزل" .

2- بجانب صغر السن يفضل أن تكون بكراً. يقول محمد: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير". وعندما أخبره جابر بن عبد الله بأنه تزوج ثيباً قال له: "فهلا بكراً تلاعبها" وتتضح عدم مساواة البكر والثيب أيضاً في معاملة محمد أزواجه: "عن أنس بن مالك قال: إذا تزوج (محمد) البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج ثيباً أقام عندها ثلاثاً ولو قلت إنه رفعه لصدقت ولكنه قال: "السنة كذلك" . ويجوز نكاح الثيب إذا كانت هناك حاجة تدعوه إلى ذلك، كأن يكون عنده أطفال تحتاج إلى تربيتها ممن تعوَّد التربية، أو يكون كبير السن فتصرف عنه البكر فلا تدوم بينهما الإلفة.

3- لا يبحث الفقهاء فيما يجب أن تتصف به المرأة المثالية كزوجة فحسب، بل تطرقوا أيضاً إلى ما لا يجوز من صفات مذمومة وعيوب عندها. فبينما عيوب الرجل التي يمكن أن تمنع أو تلغي زواجه تنحصر في ثلاث: الجنون والخصاء والعنت، تعد عيوب المرأة وتعلل بالتفصيل. وعيوب المرأة سبعة: الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعرج والعمى.

أما الجنون: فهو فساد العقل، فلا يثبت الخيار مع السهو السريع زواله، ولا مع الإغماء العارض مع غلبة المرة، وإنما يثبت الخيار فيه مع استقراره.

أما الجذام: فهو الذي يظهر معه يبس الأعضاء وتناثر اللحم، ولا تجزي قوة الاحتراق، ولا تعجر الوجه، ولا استدارة العين .

وأما البرص: فهو البياض الذي يظهر على صفحة البدن لغلبة البلغم ولا يقضي بالتسلط مع الاشتباه.

وأما القرن: فقد قيل: هو العَفْل، وقيل: هو عَظْم ينبت في الرحم يمنع الوطء، والأول أشبه. فإن لم يمنع الوطء، قيل: لا يفسخ به لإمكان الاستمتاع، ولو قيل بالفسخ تمسكاً بظاهر النقل أمكن.

وأما الإفضاء: فهو تصيير المسلكين واحداً.

وأما العرج: ففيه تردد، أظهره دخوله في أسباب الفسخ، إذا بلغ الإقعاد.

وقيل: الرتق أحد العيوب، المسلطة على الفسخ، وربما كان صواباً إن منع من الوطء أصلاً، لفوات الاستمتاع، إذا لم يمكن إزالته، أو أمكن وامتنعت من علاجه.

ولا ترد المرأة بعيب غير هذه السبعة .

وفي رواية أن محمداً قال لأم سليم تنظر لامرأة: "شمّي عوارضها وانظري إلى عقبها" .

4_ الجمال صفة لا يجوز إهمالها في البحث عن الزوجة. يخبرنا حديث ضعيف بأن النظر إلى امرأة جميلة يشحذ ويقوي العين . وكما ذكرنا آنفاً فإن المرء يتزوج المرأة لثلاث، إما لجمالها أو لحسبها أو لدينها .

"عن عائشة رضي الله عنها قالت: خطب رسول الله (ص) امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها، فقال لي: "كيف رأيت"؟ فقلت: ما رأيت طائلاً، فقال: "لقد رأيت خالاً بخدها اقشعر كل شعرة منك على حدة" فقالت: ما دونك سرّ" .

ومن المرغوب فيه أن يكون مهرها يسيراً، قال محمد: "إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة".

6- غير أن كونها "ولوداً" هو أهم ما يجب توفره عند المرأة. رعن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أحببت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم (02). يقول الجزيري: يحسن أن تكون ولوداً لأن العقيم لا تؤدي وظيفة التناسل المطلوب للمجتمع الإنساني". ونختتم هذا الفصل بما ورد في إحياء علوم الدين عن فوائد الزواج، والفائدة الأولى هي:

الولد: وهو الأصل، وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل، وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة، كالموكل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث، تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب، مع الاستغناء عنها، إظهاراً للقدرة، وإتماماً لعجائب الصنعة، وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة، وحقت به الكلمة وجرى به القلم. وفي التوصل إلى الولد قربه من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزباً، الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان. والثاني طلب محبة رسول الله (ص) في تكثير من به مباهاته. والثالث طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده، والرابع طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله" .

 

الفصل الحادي عشر

عقد النكاح في الشريعة الإسلامية

 

بعد أن درسنا مكانة الزواج وصفات الزوجة المثالية، نريد أن ننقل الآن من المصادر الفقهية كيف يتم عقد النكاح، وما الذي يجب توفره من شروط لعقده. فالنكاح في الحالات العادية سنة محمد كما ذكرنا سابقاً، وهذا ثابت بالأحاديث المروية عن محمد وسلوكه الشخصي في هذا المجال. قال الأحناف إن النكاح يكون فرضاً وواجباً وسنة وحراماً ومكروهاً. إن تيقن الشخص الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج فالنكاح عندئذ فرضٌ عليه. وإذا كان للشخص اشتياق شديد إليه بحيث يخاف على نفسه الوقوع في الزنا فيكون عندئذ واجباً. ويكون سنة مؤكدة للشخص إن كانت له رغبة في ذلك وهو معتدل. وإن تيقن أنه يترتب عليه الكسب الحرام في حال زواجه فالنكاح في هذه الحالة حرام. وإذا أحس بذلك دون أن يتيقنه فعندئذ مكروه .

للنكاح ركنان وهما جزآه اللذان لا يتم بدونهما: أحدهما الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه. ثانيهما القبول وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه. فعقد النكاح هو عبارة عن الإيجاب والقبول . وأما ما يتعلق بشروط النكاح ويذكرها بعض الفقهاء ضمن أركان النكاح فهناك تفصيل ممل للغاية. ولذا نذكر أهمها بالاختصار.

الشرط الأول يتصل بالصيغة، فهناك ألفاظ مخصوصة يتم بها عقد النكاح، بعضها صريحة كقوله: "زوجت" و"تزوجت" "أو زوجني ابنتك". أو عن طريق الكناية كقولها: "وهبت نفسي لك" أو "جعلت نفسي صدقة لك". الشرط الثاني هو ما يسمى بـ "اتحاد المجلس" أي يجب أن يكون العاقدان في مكان واحد، فلا نكاح بالوصية والكتابة. قد يفسد اتحاد المكان بسبب عدم الاستقرار إذا تم العقد مثلاً على دابة تسير. أو إذا عقد وهما يمشيان، فإنه لا يصح لعدم الاستقرار في مكان واحد. أما إذا عقدا على ظهر السفينة وهي تسير فإنه يصح لأن السفينة تعتبر مكاناً، وهل السيارة "الأتوميبل" اونحوه مثل السفينة أو الدابة؟ الظاهر أنها مثل الدابة فلا يصح العقد عليها عند الحنيفية .

ولا يصح النكاح إلا في حضور الشهود، وأقل نصاب الشهادة في النكاح اثنان فلا تصح بواحد، ولا يشترط فيهما أن يكونا ذكرين بل تصح برجل وامرأتين. على أن النكاح لا تصح بالمرأتين وحدهما، بل لا بد من وجود رجل معهما .

من لا يجوز نكاحها: أجمعوا على تحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. والجدات يدخلن في عموم الأمهات وبنات الأولاد وأن سفلن يدخلن في جملة البنات. وكذلك عمات الآباء والأمهات، وخالات الصنفين، وبنات أولاد الإخوة والأخوات على هذا القياس، هذا إذا كن من النسب. وأجمعوا على تحريم الأمهات والأخوات من الرضاع فأباحهن أهل الظاهر وأكثر الخوارج، وحرمهن أكثر الأمة، وذلك هو الصحيح. وأجمعوا على تحريم أمهات النساء وتحريم منكوحات الآباء وحلايل الأبناء بالعقد، وعلى تحريم الربايب بشرط الدخول. وأجمعوا على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح، واختلفوا في تحريم الاستمتاع بهما بملك اليمين. وكذلك الخلاف في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. فكل من خالف في شيء مما اختلف فيه سلف الأمة من أبواب النكاح في تحريم امرأة وإباحتها وفي شرط قد اختلفوا فيه كشهود النكاح ولفظه والولي لم يكفر .

وبالإضافة إلى ما تقدم حرم محمد على أصحابه والناس أجمعين زواج نسائه من بعده وجاء في القرآن: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً. إن ذلكم كان عند الله عظيماً" (الأحزاب 33: 35).

إن آراء واجتهادات الفقهاء فيما إذا كان يجب على الولي أن يستأذنها في أمر الزواج متضاربة، وما يعنونه بـ"الاستئذان" يشبه شيئاً من الشكليات، فإذنها إن كانت بكراً سكوتها، وإن بكت فهو بمنزلة سكوتها أي علامة الرضا، لأن البكاء يدل على فرط الحياء (!!) . ولكن إذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت، وإن كرهت كبيرة كانت أو صغيرة لأن للآب تزويج أولاده الصغار والمجانين وبناته الأبكار بغير إذنهم . كذلك للولي تزويج البكر والمجنونة بدون إذنهما، كذا إذا زوجها أبوها أو جدّها. ولا يبطل العقد لعيب سوى العجز (العنة) والخصاء . ومن الشروط المهمة لصحة النكاح الكفاءة، أي مساواة الرجل للمرأة وهي ست عند الأحناف: النسب والإسلام والحرفة والحرية والديانة والمال . إن الكفاءة تتعلق بالرجال دون النساء، لأن محمداً تزوج نساءً من شتى الأنساب والطوائف، ولم تكن إحداهن كفواً له . من له أب حر ومسلم فقط ليس كمن له أب وجد في الإسلام والحرية. وإذا تزوجت امرأة من ليس كفواً لها يفرق بينها وبينه، وإن أخذ وليها مهراً يدل على قبوله .

يلتزم الرجل عند عقد النكاح في حضور وليّها بدفع ما يسمى مهراً أو صداقاً. ويستحب تحديد المهر أثناء العقد، غير أنه ليس من الشروط اللازمة لصحة العقد. وحالما يتم الاتفاق على المهر، على الرجل دفع ما يسمى مهر المثل، أي مبلغاً يناسب الظروف المعاشة، وقد يتفاوت المبلغ بنسبها وحسبها، كما يختلف حسب عقلها وسنها وجمالها، وإذا أراد الرجل فسخ عقد النكاح قبل الوطء فعليه أن يدفع لها نصف المهر .

 

الفصل الثاني عشر

تعدد الزوجات

يقول القرآن: "وإن خفتم ألا تُقسِطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولواذ (النساء 4: 3). إن تعدد الزوجات كان ظاهرة منتشرة في المجتمع الجاهلي أيام محمد مثله مثل الشعوب السامية آنذاك . وحصر محمد العدد بأربعٍ. وأما الإماء فسنعالجها في فصل مستقل. لقد فهم المفسرون القدامى الإذن الوارد في هذه الآية كأقصى ما يمكن تصوره في الزواج الشرعي: "ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة فلا تنكحوا إلا ما تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم" . ويعود تعدد الزوجات إلى ذلك الصنف من الأحكام القرآنية التي لم تستطع إثبات وجودها في الشعوب الإسلامية. أغلب المسلمين متزوجون من زوجة واحدة. إنه ليست فقط العراقيل الاقتصادية التي تحول دون ذلك، بل لا ينبغي أن ننسى هنا الجانب الاجتماعي لهذه المشكلة. فزواج الرجل ثانيةً عار على عائلة زوجته الأولى. أضف إلى ذلك محاولات المسلمين المعتدلين تأويل هذه الآية بشكل يناسب متطلبات العصر. فقد ذهب قاسم أمين على سبيل المثال إلى أنه بوسع المسلم أن يستنتج من النساء 4: 3 تحريم تعدد الزوجات، لأن العدل الذي اشترطه القرآن لهذا الإذن لا يمكن تحقيقه . غير أن المسلم الملتزم، الذي يشعر نفسه مدعواً للدفاع عن كل ما ورد في كتابه الكريم وتبريره، يستشهد ب"القديم" و"الجديد" على الحكمة الإلهية الكامنة في تعدد الأزواج فيقول: إن تعدد الزوجات نظام قديم، ولكنه كان فوضى منظمة قبل الإسلام، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع، فجعله الإسلام سبيلاً للحياة الفاضلة. والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان إن إباحة تعدد الزوجات مفخرة من مفاخر الإسلام، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا نجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام وبالأخذ بنظام الإسلام" . إن الحجج والتبريرات التي يذكرها الكتاب المسلمون توحي بأن تعدد الزوجات لم ينص عليها إلا تكريماً للمرأة وإحساناً لها: "ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟ أنحرم المرأة من نعمة الزوجية ونعمة الأمومة ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوروبا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرق شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة، وطهارة الأسرة، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العقال أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف، أم نجعلها خدينة وعشيقة لذلك الرجل، وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟!" .

ويضيف سيد قطب في تفسيره: رفي حالة عقم الزوجة مع رغبة الزوج الفطرية، يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما:

أن يطلقها ليبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل.

2- أو أن يتزوج بأخرى ويُبقي على عشرته مع الزوجة الأولى. وقد يهذر قوم من المتحذلقين، ومن المتحذلقات، بإيثار الطريق الأول. ولكن تسعاً وتسعين زوجة (على الأقل) من كل مائة ستتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق: الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور - فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج - وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أمناً واسترواحاً في الأطفال الصغار، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة، وأياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص" .

ليس من السهل أن يعتقد المرء وهو يقرأ هذا النوع من الدفاع عن تعدد الزوجات، والذي يشبه شيئاً من التهكم بأن المفكر سيد قطب لم يكن يعرف ما هو التبني (Adoption) أو أن يسأل نفسه ما الحيلة إذا كان الرجل نفسه يعاني العقم!! أو أين تبقى علاقة الود والمحبة التي تربط الزوجين بعضهما ببعض!! إن العلماء والمفكرين المسلمين المحدثين لا يقفون في الدفاع عن التعدد عند "النص" "والواقع" فحسب، بل هم يحرصون على تأييد وجهة نظرهم من خلال ما سمعوا أو قرأوا من أفكار الأوروبيين - فيخبرنا الصابوني مثلاً: لقد اختارت ألمانيا (المسيحية) التي يحرم دينها التعدد، فلم تجد خيرة لها إلا ما اختاره الإسلام، فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء. وتنقلنا ما قالت "أستاذة ألمانية في الجامعة" (دون ذكر أي مصدر): "إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة الزوجات. إني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه. إن هذا ليس رأيي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا".

يدَّعي الأستاذ الصابوني أن مؤتمر الشباب الألماني في (ميونخ) بألمانيا عام 1948 أوصى بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية . وهذا هو العقاد يستشهد تارة بالفلاسفة وتارة أخرى بمن اشتهروا بنزعتهم العنصرية من الكتاب الغربيين لكي يبصّر القارئ بعالمية التعدد فيقول: "ويرى وسترمارك أن مسألة تعدد الزواج لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرَّة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث، فيما يتعلق بمشكلات الأسرة، فتساءل في كتابه المتقدم ذكره: "هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟ذ ثم أجاب قائلاً: "إنه سؤال أجيب على آراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يتأدى إلى هذه النهاية، وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون Le Bon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ أهرنفيل Ehernfels إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء "السلالة الآرية" ثم يعقب وسترمارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره" . يمكن أن نلخص أهم الحجج المذكورة في مؤلفات الكتّاب المسلمين اليوم دفاعاً عن تعدد الزوجات وتبريراً لوجوده في أربع نقاط:

1- يدّعون أن عدد النساء في العالم يفوق عدد الرجال، حيث تجاوز نسبة أربع إلى واحد . فإن تعدد الزوجات أحسن حل لهذه المشكلة.

2- يحتجون بأن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها، فلا بد من التعدد، لأن عمران الدنيا بالتكاثر والانتشار .

3- يتحدثون عن حالات واقعية مثل رغبة الزوج في إرواء الوظيفة الفطرية (أي العلاقة الجنسية) مع رغبة الزوجة عنها لعائق من السن أو من المرض. فالتعدد هو الحل الوحيد لهذه المشكلة .

ويضاف إلى تلك الحالات الخاصة التي تبيح تعدد الزوجات حيض المرأة إذا طال، ولا يسع الرجل أن يجامعها، أو اشتياق الرجل البالغ إلى "النكاح" والذي لا يمكن شفاؤه بامرأة واحدة، فيحتاج إلى أكثر من زوجة لإراحة النفس . إن الإسلام قد أباح لمثل هؤلاء الرجال تحقيق أمنيتهم في إطار شرعي لكيلا يكلمهم تضليل الشيطان . أما محمد رشيد رضا فلا يذكر حالات خاصة، بل ينطلق من كيان أو طبيعة الرجل التي تجعله من المستحيل أن يكتفي بامرأة واحدة .

4- ورابعاً مشكلة العقم. والذي يقرأ ما يقول به الكتّاب والعلماء المسلمون في العصر الحديث وهم يأتون بمشكلة العقم عند المرأة ويشرحونها نصراً لدعواهم بأن للتعدد حكماً لا يسبر غورها، يلاحظ أن العقم أقوى حجة لديهم. ولا نستغرب ذلك، إذ الولد أو دوام النسل هو سبب وجود النكاح الذي يعني الوطء، ويستعمل بمعنى الزواج مجازاً كما رأينا في الأبواب السابقة. وإذا درسنا سيرة رسول الله، نرى أن المسلم ليس بحاجة إلى الاستشهاد بالمشاكل الاجتماعية أو بالحالات الخاصة أو بما أقره "مؤتمر ميونخ" وما قالته أستاذة ألمانية لتبرير تعدد الزوجات، فإن محمداً الذي يقول عنه القرآن: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الأحزاب 33: 12) خير مثال على أن تعدد الزوجات سنة مؤكدة وليس فقط مباحاً. إذ "قال رسول الله: ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا" . والسنة كما هو المعروف هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية "ومن جهل بها فليس له مرشد في غياهب الشك". ويروى عن هذا المرشد قوله: "فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً" .

لقد حاول المسلمون المعتدلون الذين لاحظوا ما للشريعة من عيوب ونقائص إصلاح النظام الديني وتوفيقه مع متطلبات القرن العشرين. وكانت المحاولة الأولى من هذا القبيل ما قام به المصلح والمفكر الكبير جمال الدين الأفغاني (1837-1937) ونصح عدم تطبيق هذه الآية لاستحالة "العدل" إذا كان للرجل أكثر من امرأة.

بدأت مناقشة ظاهرة تعدد الزوجات منذ بداية القرن العشرين في الأوساط المتحررة، وما تزال تثور حولها موجة سخط وغضب. لقد عالج الكتّاب العرب هذا الموضوع في مؤلفاتهم التي لا تقل عن الدراسات الاجتماعية الأوروبية صرامة في الانتقاد للمجتمع، أمثال الكاتبة المصرية نوال السعداوي والأستاذة المغربية فاطمة المرنيسي.

وما يتصل بالوضع القانوني لتعدد الزوجات في العالم الإسلامي فإنه يقع تحت معاقبة القانون في تركيا وتونس. وصدر في مصر سنة 9791 قانون جاء بقيود إضافية للتعدد تمهيداً لإلغائه نهائياً، وذلك بإيحاء من زوجة الرئيس الراحل أنور السادات. وقد سمّاه الأصوليون المسلمون "قانون جيهان السادات" وقد نص هذا القانون على أن للمرأة أن تطلب الطلاق فوراً وتحتفظ بالمسكن إذا تزوج زوجها امرأة ثانية في حالة حملها . وهناك من يرى تفسير آية التعدد تفسيراً عصرياً خروجاً على الله .